فصل: تفسير الآيات رقم (24- 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ على بيان من ربه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ‏}‏ يقول‏:‏ يقرأ جبريل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وهو شاهد منه، يعني‏:‏ من الله تعالى‏.‏ وهذا قول ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم النخعي‏.‏ ويقال‏:‏ أفمن كان على بينة من ربه، يعني‏:‏ أن الله بيّن أمره ونبوته بدلائل أعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَيَتْلُوهُ‏}‏ أي‏:‏ يقرأ القرآنَ جبريلُ على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏شَاهِدٌ مّنْهُ‏}‏، أي‏:‏ ملك أمين من الله تعالى، وهو جبريل‏.‏ وقال شهر بن حوشب القرآن‏:‏ شاهد من الله تعالى، ومعناه‏:‏ يتلو القرآن، وهو شاهد من الله تعالى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ويتلوه شاهد منه، يعني‏:‏ لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لسانه شاهد منه‏.‏ وكذلك قال عكرمة‏.‏ قال‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدثنا السراج، قال‏:‏ حدثنا أبو إسماعيل، قال‏:‏ حدثنا صفوان بن صالح، قال‏:‏ حدثنا الوليد بن مسلم، قال‏:‏ حدثنا الخليل، عن قتادة، عن عروة، عن محمد بن علي، قال‏:‏ قلت لعليّ‏:‏ إنَّ الناس يزعمون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ‏}‏ أنك أنت التالي، قال‏:‏ وددت أني أنا هو، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال‏:‏ الشَّاهد القرآن، ويتلوه يعني‏:‏ بعده‏.‏ ويقال‏:‏ يتلوه، يعني‏:‏ يتبعه، كقوله‏:‏ ‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال القتبي‏:‏ هذا كلام على الاختصار ومعناه‏:‏ أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها‏؟‏ فاكتفى من الجواب بما تقدم، كقوله‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اليل ساجدا وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الالباب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ يعني‏:‏ كمن هو بخلاف ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى‏}‏ يعني‏:‏ جبريل قرأ التوراة على موسى عليه السلام من قبل أن يتلو القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا قول الكلبي، ومقاتل‏.‏ وقال عبد الله بن سلام‏:‏ يتلو القرآن، وكان من قبله يتلو التوراة‏.‏ والتأويل الأول أصح، لأن هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة‏.‏ ويقال‏:‏ هم الذين آمنوا بمكة من أهل الكتاب، حين قدموا من الحبشة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إَمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ إماماً يُهتدى به ويعمل به، ورحمةً، يعني‏:‏ ونعمة من العذاب لمن آمن به، يعني‏:‏ كتاب موسى عليه السلام ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ باياتنآ إِلاَّ الكافرون‏}‏

‏[‏العنكبوت‏:‏ 47‏]‏ يعني‏:‏ بالقرآن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب‏}‏ يعني‏:‏ من يجحد بالقرآن ‏{‏فالنار مَوْعِدُهُ‏}‏ يعني‏:‏ مصيره‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى، حتى بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ، لاَ يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لاَ يُؤمِنُ بِي إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ»‏.‏ فجعلت أقول وأتفكر‏:‏ أين هذا في كتاب الله‏؟‏ حتى أتيت على هذه الآية، ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ‏}‏ قال‏:‏ هي في أهل الملل كلها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ فلا تك في شك أن موعده النار‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فلا تك في شك أن القرآن من الله تعالى، وأنه الحق من ربك، أي‏:‏ الصدق من ربك، رداً لقولهم‏:‏ إنه يقول ذلك من شيطان يلقيه إليه، يقال له‏:‏ الري‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ إلا وَمَعَهُ شَيْطَانٌ فَاغِرٌ بَيْنَ يَدَيهٍ، إلا أَنَّ الله تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْه وَأَسْلَم»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ أهل مكة ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون بالقرآن بأنه من عند الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏18‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ يعني‏:‏ ومن أشد في كفره ممن افترى، يقول‏:‏ ممن اختلق على الله كذباً، بأن معه شريكاً ‏{‏أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ يساقون إلى ربهم يوم القيامة، ‏{‏وَيَقُولُ الاشهاد‏}‏ يعني الرسل‏:‏ قد بلغناهم الرسالة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ويقول الأشهاد، يعني‏:‏ الأنبياء‏.‏ وقال قتادة، ومجاهد، ويقول الأشهاد، يعني‏:‏ الملائكة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ الأشهاد، واحدها شاهد، مثل أصحاب وصاحب، ويقال‏:‏ شهيد وأشهاد، مثل‏:‏ شريف وأشراف‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ افتروا على الله عز وجل بأن معه شريكاً، وقال الله‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ عذابه وغضبه على المشركين‏.‏ ثم وصفهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ يصرفون الناس عن دين الإسلام ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ يطلبون بملة الإسلام زيفاً وغِيراً، ‏{‏وَهُمْ بالاخرة هُمْ * كاذبون‏}‏ ينكرون البعث‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ لم يفوتوا، ولم يهربوا من عذاب الله تعالى، حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة، ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ يعني‏:‏ ما كان لهم من عذاب الله تعالى مانع يمنعهم من العذاب، ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب‏}‏ يعني‏:‏ الرؤساء يكون لهم العذاب بكفرهم، وبما أضلوا غيرهم، ‏{‏مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع‏}‏ في العذاب، لا يقدرون أن يسمعوا ‏{‏وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏}‏ في النار شيئاً‏.‏

ويقال‏:‏ ذلك التضعيف لهم، لأنهم كانوا لا يستطيعون الاستماع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، في الدنيا من بغضه، ‏{‏وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ‏}‏، أي‏:‏ عمياً لا ينظرون إليه من بغضه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون سماع الهدى، وبما كانوا لا يبصرون الهدى‏.‏ ويقال‏:‏ كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا، فلم يسمعوا وكانوا يستطيعون أن يبصروا، فلم يبصروا‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ لم يكن لهم سمع القلب، وما كانوا يبصرون، أي لم يكن لهم بصر القلب‏.‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر ‏{‏يضاعف لَهُمْ‏}‏ بتشديد العين بغير ألف، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏يضاعف‏}‏ بالألف، ومعناهما واحد‏.‏

ثمّ بيَّنَ أنّ ضرر ذلك يرجع إلى أنفسهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ غبنوا حظَّ أنفسهم ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ويبطل عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، فات عنهم ولا ينفعهم شيئاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ قال القتبي‏:‏ يعني حقاً‏.‏ ويقال‏:‏ يعني نعم‏.‏ ويقال‏:‏ لا جرم، يعني‏:‏ لا شك‏.‏ ويقال‏:‏ لا كذب‏.‏ ويقال‏:‏ لا جرم، أي‏:‏ لا بلى‏.‏ وذكر عن الفراء أنه قال‏:‏ لا جرم، كلمة كانت في الأصل، بمنزلة لا بد، ولا محالة، فكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقاً، ‏{‏أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون‏}‏ يعني‏:‏ الخاسرين‏.‏

ويقال‏:‏ الأخسر إذا قلت بالألف واللام، يكون بمعنى الخاسر، وإذا قلت‏:‏ أخسر بغير اللام، يكون أخسر من غيره‏.‏

ثم أخبر عن المؤمنين، وما أعدّ لهم في الآخرة، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى، ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏، يعني‏:‏ الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، ‏{‏وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ‏}‏، قال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ تواضعوا، والإخبات‏:‏ التواضع‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أخلصوا، ويقال‏:‏ يخشعوا فرقاً من عذاب ربهم، ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة‏}‏ يعني‏:‏ أهل الجنة ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ يعني‏:‏ دائمون، لا يموتون ولا يخرجون منها، ثم ضرب مثل المؤمنين والكافرين‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 29‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الفريقين‏}‏ يعني‏:‏ مثل المؤمن والكافر، ومثل الذي يبصر الحق، ومثل الذي لا يبصر الحق‏:‏ ‏{‏كالاعمى‏}‏ يعني‏:‏ عن الإيمان، ولا يبصره، ‏{‏والاصم‏}‏ عن الإيمان، ولا يسمعه، وهو الكافر، ‏{‏والبصير والسميع‏}‏ وهو المؤمن‏.‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً‏}‏ في الشبه‏.‏ ويقال معناه‏:‏ مثل الفريقين، يعني‏:‏ الذي لا يسمع، ولا يبصر، هل يستوي بالذي يسمع ويبصر‏؟‏ ويقال معناه‏:‏ كالأعمى والبصير، والأصم والسميع‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكفار مكة‏:‏ «هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ والأصَمُّ وَالسَّمِيعُ‏؟‏» قالوا لا‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أنهما لا يستويان‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ بالتخفيف، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بالتشديد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، إنِّي بكسر الألف، ومعناه‏:‏ قال لهم‏:‏ إنِّي لكم نذير‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ أنِّي لكم بالنصب، ومعناه‏:‏ ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالإنذار‏.‏ وفي الآية تهديد لأهل مكة، معناه‏:‏ واتل عليهم نبأ نوح، يعني‏:‏ إن لم يتّعظوا بما ذكرت، فاتل عليهم خبر نوح‏.‏ وروى أبو صالح، عن ابن عباس‏:‏ أن نوحاً أُوحي إليه، وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة، فدعا قومه مائة وعشرين سنة، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة، ومكث بعد هلاك قومه ثلاثمائة وخمسين سنة‏.‏ فذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً، وذكر عن وهب بن منبه، قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى نوح وهو ابن تسعمائة، ودعا قومه خمسين سنة‏.‏ فلما هلك قومه عاش بعدهم خمسين سنة، فتمام عمره ألف وخمسون‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ إنما سُمِّي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه‏.‏ ويقال‏:‏ كان اسمه شاكر، فمن كثرة نوحه على نفسه، سُمِّيَ نوحاً، فدعا قومه إلى الله وقال لهم‏:‏ إنِّي لكم نذير مبين من العذاب‏.‏ ويقال‏:‏ مبين، يعني‏:‏ مبين بلغة تعرفونها ‏{‏أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ يعني‏:‏ ألا تطيعوا، ولا توحِّدوا إلا الله، ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ الغرق‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف من قومه ‏{‏مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا‏}‏ يعني‏:‏ آدمياً مثلنا، ‏{‏وَمَا نَرَاكَ اتبعك‏}‏ يعني‏:‏ آمن بك ‏{‏إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا‏}‏ يعني‏:‏ سفلتنا وضعفاؤنا ‏{‏بَادِىَ الرأى‏}‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ ظاهر الرأي، يعني‏:‏ إنهم يعرفون الظاهر، فلا تمييز لهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بدا لنا أنهم سفلتنا وضعفاؤنا بادي الرأي‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أراذلنا يعني‏:‏ شرارنا، وهو جمع أرذل‏.‏ وقوله‏:‏ بادي الرأي، بغير همز، أي ظاهر الرأي، من بدا يبدو‏.‏ وأما بادئ بالهمزة، يعني‏:‏ أول الرأي من قولك‏:‏ بدأ يبدأ‏.‏

قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏بَادِىَ الرأى‏}‏ بالهمز، وقرأ الباقون‏:‏ على ضد ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ‏}‏ قوم نوح قالوا لنوح‏:‏ ما نرى لكم علينا من فضل في مُلْكٍ ولا مال، ‏{‏بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين‏}‏ يعني‏:‏ نحسبك من الكاذبين‏.‏ وقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة، ويقال‏:‏ إنما أراد به نوحاً ومن آمن معه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ نوح‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ يعني‏:‏ إن كنت على دين ويقين وبيان من ربي، ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن‏}‏ يقول‏:‏ أكرمني بالرِّسالة والنُّبُوَّةِ ‏{‏فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ عميت عليكم هذه البينة‏.‏ ويقال‏:‏ عُميتم عن ذلك‏.‏ يقال‏:‏ عمي عليه هذا إذا لم يفهم‏.‏ ويقال‏:‏ التبست عليكم هذه النعمة، وهذه البينة التي هي من الله تعالى، فلم تبصروها ولم تعرفوها‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، فَعُمِّيَتْ بضم العين وتشديد الميم، على معنى فعل ما لم يُسَمَّ فاعله‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بنصب العين والتخفيف، ومعناه واحد، يعني‏:‏ خَفِيَتْ عليكم هذه النعمة، والرحمة‏.‏ واتفقوا في سورة القصص ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربى وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 28‏]‏ الأَنْبَاءُ بالنصب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ كيف نعرفكموها وأنتم للنبوة كارهون‏؟‏ قال قتادة‏:‏ أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ أفنفهمكموها وأنتم لها كارهون‏؟‏ يعني‏:‏ منكرون‏.‏ ويقال‏:‏ أنحملكموها، يعني‏:‏ معرفتها‏.‏ ويقال‏:‏ أنعلمكموها وأنتم تكذبونني ولا تناظروني في ذلك‏.‏

ثم أخبرهم عن شفقته، وقلة طمعه في أموالهم، فقال‏:‏ ‏{‏كارهون وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً‏}‏ يعني‏:‏ لا أطلب منكم على الإيمان أجراً، يعني‏:‏ رزقاً ولا جعلاً ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ ما ثوابي إلا على الله، ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ‏}‏، لأنهم طلبوا منه أن يطرد من عنده من الفقراء والضعفاء، فقال ‏{‏إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبّهِمْ‏}‏ فيجزيهم بأعمالهم‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم ملاقو ربهم فيشكونني إلى الله تعالى، إن لم أقبل منهم الإيمان وأطردهم، ‏{‏ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ‏}‏ ما أمرتكم به وما جئتكم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 37‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْهَلُونَ وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لو طردتهم فيعذبني الله بذلك، فمن يمنعني من عذاب الله، إن طردتهم عن مجلسي‏؟‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أفلا تَتَّعِظُون‏؟‏ ولا تفهمون أنّ مَنْ آمن بالله لا يُطْرَدُ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله‏}‏ يعني‏:‏ مفاتيح الله في الرزق، ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏ أن الله يهديكم أم لا‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الغيب‏}‏، يعني‏:‏ علم ما غاب عني، ‏{‏وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ‏}‏ من الملائكة، ‏{‏وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تحتقر أعينكم من السفلة، ‏{‏لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا‏}‏ يعني‏:‏ لا أقول‏:‏ إن الله تعالى لا يكرم بالإيمان، ولا يهدي من هو حقير في أعينكم، ولكن الله يهدي من يشاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ بما في قلوبهم من التصديق، والمعرفة، ‏{‏إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ إن طردتهم فلم أقبل منهم الإيمان، بسبب ما لم أعلم ما في قلوبهم، كنت ظالماً على نفسي‏.‏ فعجز قومه عن جوابه، ‏{‏قَالُواْ يَا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا‏}‏، قال مقاتل‏:‏ ماريتنا ‏{‏فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا‏}‏ يعني‏:‏ مرانا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ دعوتنا، فأكثرت دعاءنا‏.‏ ويقال‏:‏ وعظتنا، فأكثرت موعظتنا‏.‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ يعنيَ‏:‏ لا نقبل موعظتك، فأتنا بما تعدنا من العذاب، ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ بأن العذاب نازل بنا‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ لهم نوح‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء‏}‏ إن شاء يُعذبكم، وإن شاء يصرفه عنكم، ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إن أراد أن يعذبكم لا تفوتون من عذابه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى‏}‏ يعني‏:‏ دعائي، وتحذيري، ونصيحتي، ‏{‏إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إن أردت أن أدعوكم من الشرك، إلى التوحيد، والتوبة، والإيمان، ‏{‏إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا تنفعكم دعوتي، إن أراد الله أن يضلكم عن الهدى، ويترككم على الضلالة ويهلككم‏.‏ ‏{‏هُوَ رَبُّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ هو أولى بكم‏.‏ ويقال‏:‏ هو ربكم، رب واحد ليس له شريك ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ قَال مقاتل‏:‏ الخطاب لأهل مكة‏.‏ معناه أَتقولون إن محمداً تقوله من ذات نفسه ‏{‏قُلْ إِنِ افتريته‏}‏ من ذات نفسي ‏{‏فَعَلَىَّ إِجْرَامِى‏}‏ يعني خطيئتي ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ‏}‏ يعني من خطاياكم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الخطاب أيضاً لقوم نوح‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ يعني‏:‏ قوم نوح يقولون افتراه، أي‏:‏ اختلقه من تلقاء نفسه، فقال لهم نوح‏:‏ ‏{‏افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى‏}‏ أي آثامي، ‏{‏وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ‏}‏ أي مما تأثمون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ‏}‏ قال الحسن‏:‏ إن نوحاً عليه السلام لم يدع على قومه، حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ‏}‏ فدعا عليهم عند ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ وذلك أن نوحاً ندم على دعائه، وجعل يحزن عليهم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يحزنك إذا نزل بهم الغرق، بما كانوا يفعلون من الكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏}‏ يقول‏:‏ اعمل السفينة، ويقال‏:‏ للواحد وللجماعة الفلك، ‏{‏بِأَعْيُنِنَا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ بمنظر منا، ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏ يعني‏:‏ بوحينا إليك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بتعليمنا وأمرنا‏.‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ فلا تراجعني في قومك، ولا تدعني بصرف العذاب عنهم، ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ بالطوفان‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ‏}‏، يعني ابنه كنعان‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ كان طول سفينة نوح ثلاثمائة ذراع، وعرضها وإرتفاعها أحدهما ثلاثون، والآخر أربعون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ طولها ألف ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طولها ثلاثمائة ذراع، وطولها في الماء ثلاثون ذراعاً، وعرضها خمسون ذراعاً‏.‏

وقال القتبي‏:‏ قرأت في التوراة‏:‏ إن الله تعالى أوحى إليه أن اصنع الفلك، وليكن طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وليكن بابها في عرضها‏.‏ وادخل أنت في الفلك، وامرأتك، وبنوك، ونساء بنيك، ومن كل زوجين من الحيوان ذكراناً وإناثاً، فإني منزل المطر على الأرض، أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأتلف كل شيء خلقته على الأرض‏.‏

فأرسل الله تعالى ماء الطوفان على الأرض، في سنة ستمائة من عمر نوح ولبث في الماء مائة وخمسين يوماً، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة‏.‏ وروي عن وهب بن منبه، أنه قال‏:‏ مكث نوح ينجر السفينة مائة سنة، فلما فرغ من عملها أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، فحمل فيها امرأته وبنيه ونساءهم، فركب فيها لسبع عشرة ليلة خلت من صفر، فمكث في الماء سبعة أشهر لم يقر لها قرار، فأرسيت على الجودي خمسة أشهر، فأرسل الغراب لينظر كم بقي من الماء، فمكث على جيفة فغضب عليه نوح ولعنه، ثم أرسل الحمامة فوقعت في الماء، فبلغ الماء قدر حمرة رجليها، فجاءت فأرته فبارك عليها نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَصْنَعُ الفلك‏}‏ يعني‏:‏ ينجر السفينة‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى أمره بأن يغرس الأشجار، فغرسها حتى أدركت، وقطعها حتى يبست، ثم اتخذ منها السفينة، فاستأجر أجراء ينحتون معه‏.‏ ‏{‏وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف من قومه ‏{‏سَخِرُواْ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ استهزؤوا به، وكانوا يقولون‏:‏ إن الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً، ومرة كانوا يقولون‏:‏ أتجعل للماء إكافاً فأين الماء‏.‏

‏{‏قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إن تسخروا منا اليوم، فإنا نسخر منكم بعد الهلاك، يعني‏:‏ يصيبكم جزاء السخرية، ‏{‏كَمَا تَسْخَرُونَ‏}‏ منا، يعني‏:‏ بما تسخرون ويقال إن تستجهلوا بنا بهذا الفعل، فإنا نستجهلكم بترك الإيمان، كما تستجهلوننا ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تعرفون بعد هذا من أحق بالسخرية، وهذا وعيد لهم‏.‏ ‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ يهلكه ويذله ‏{‏وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ينزل عليه عذاب دائم، لا ينقطع عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ يعني‏:‏ قولنا بالعذاب، ويقال‏:‏ عذابنا، وهو الغرق ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ يعني‏:‏ نبع الماء من أسفل التنور‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ التنور الذي يخبز فيه في أقصى داره بالشام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وفار التنور، يعني‏:‏ نبع الماء من وجه الأرض‏.‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ يعني‏:‏ طلوع الفجر، أي تنوير الصبح، يعني‏:‏ إذا طلع الفجر، كان وقت الهلاك‏.‏ وروي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً أنه قال‏:‏ فار منه التنور وجرت منه السفينة، أي مسجد الكوفة ‏{‏قُلْنَا احمل فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ في السفينة ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ يعني‏:‏ من كل صنفين ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ يعني‏:‏ واحمل أهلك فيها معك ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏ بالغرق، يعني‏:‏ سوى من قدرت عليه الشقاوة والكفر، فلا تحمله، يعني‏:‏ امرأته الكافرة وابنه كنعان، ‏{‏وَمَنْ ءامَنَ‏}‏ معه، يعني‏:‏ احمل في السفينة من آمن معك‏.‏

قال الفقيه‏:‏ أخبرني الثقة، بإسناده عن وهب بن منبه، قال‏:‏ أمر نوح بأن يحمل من كل زوجين اثنين، فقال‏:‏ رب كيف أصنع بالأسد والبقرة‏؟‏ وكيف أصنع بالعناق والذئب‏؟‏ وكيف أصنع بالحمام والهرة‏؟‏ قال‏:‏ يا نوح من ألقى بينهم العداوة‏؟‏ قال‏:‏ أنت يا رب، قال‏:‏ فإني أؤلف بينهم حتى يتراضوا‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدثنا الماسرخسي، قال‏:‏ حدثنا إسحاق، قال‏:‏ حدثنا قبيصة بن عقبة، قال‏:‏ حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال‏:‏ كثر الفأر في السفينة، حتى خافوا على حبال السفينة، فأوحى الله تعالى إلى نوح، أن امسح عن جبهة الأسد، فمسحها فعطس، فخرج منها سنوران، فأكلا الفأر‏.‏

وكثرت العذرة في السفينة، فشكوا إلى نوح، فأوحى الله تعالى إلى نوح‏:‏ أن امسح ذنب الفيل، فمسحه فخرج خنزير، فأكل العذرة‏.‏ وفي خبر آخر فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة‏.‏ قال الفقيه، أبو الليث رحمه الله‏:‏ في خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة، كانت من قبل‏.‏ وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل، والله أعلم بالصواب منهما‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لما فار الماء من التنور، فأرسل الله تعالى من السماء بمطر شديد، فأقبلت الوحوش حتى أصابتها السماء إلى نوح، وسخرت له فحمل في السفينة من كل طير زوجين، ومن كل دابة زوجين، ومن كل بهيمة زوجين، ومن كل سبع زوجين، يعني‏:‏ الذكر والأنثى‏.‏ فقال نوح‏:‏ رب هذه الحية والعقرب، كيف أصنع بهما‏؟‏ فبعث الله تعالى جبريل، فقطع فقار العقرب، وضرب فم الحية‏.‏ وكان نوح جعل للسفينة ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض، فجعل في الباب الأسفل‏:‏ السباع والهوام، وجعل في الباب الأوسط‏:‏ البهائم والوحوش، وجعل في الباب الأعلى‏:‏ بني آدم من ذكر منهم‏.‏

فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم ثمانون إنساناً، وقال الأعمش في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ كان نوح، وثلاث بنين، ونساؤهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا أربعين رجلاً، وأربعين امرأة‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏مِن كُلّ‏}‏ بالتنوين، يعني‏:‏ من كل شيء، ثُمَّ قال ‏{‏زَوْجَيْنِ‏}‏ على وجه التفسير للكل، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ بغير تنوين على معنى الإضافة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اركبوا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ ادخلوا في السفينة‏.‏ ويقال‏:‏ الجؤوا فيها من الغرق ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ إذا ركبتموها فقولوا‏:‏ ‏{‏بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا‏}‏‏.‏ قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏***مَجْرِيها‏}‏ بنصب الميم، وهكذا قرأ ابن مسعود، والأعمش‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بضم الميم‏.‏ واتفقوا في ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏، أنها بضم الميم، إلا أن حمزة، والكسائي قرآ بالإمالة‏.‏

فأما من قرأ بضم الميم، فيكون بمعنى المصدر، ومعناه‏:‏ يعني إجراؤها وإرساؤها بأمر الله تعالى، وهذا قول الفراء‏.‏ ويقال‏:‏ معناه بسم الله من حيث تجري وتحبس‏.‏ ومن قرأ بالنصب فمعناه‏:‏ بسم الله جريها وحبسها يعني‏:‏ بأمر الله تعالى‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بالمؤمنين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ‏}‏ يعني‏:‏ أمواجاً ‏{‏كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ كنعان، وقرأ بعضهم‏:‏ ابنها، يعني‏:‏ ابن امرأته، وقرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏نُوحٌ ابنه‏}‏ بضم الألف، وهي بلغة طيئ‏.‏ ويقال‏:‏ إنه لم يكن ابنه، ولكن كان ابن امرأته‏.‏ وقراءة العامة‏:‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ قالوا‏:‏ ‏{‏وَكَانَ‏}‏ ابن نوح ‏{‏فِى مَعْزِلٍ‏}‏ يعني‏:‏ في ناحية من السفينة، ويقال‏:‏ من الجبل، ‏{‏مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا‏}‏ أسلم، واركب في السفينة معنا ‏{‏وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين‏}‏ يعني‏:‏ لا تثبت على الكفر، ولا تتخلف مع الكافرين‏.‏

قرأ عاصم‏:‏ ‏{‏مَعْزِلٍ يابنى اركب‏}‏ بنصب الياء قرأ الباقون ‏{‏مَعْزِلٍ يابنى اركب‏}‏ بالكسر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ القراءة عندنا بالكسر، للإضافة إلى نفسه كما اتفقوا في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ يابنى لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 5‏]‏ وفي لقمان‏:‏ ‏{‏يابنى إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏ وإنما فرق عاصم فيما يرى الألف الخفيفة الحقيقة التي في قوله اركب‏.‏

‏{‏قَالَ سَاوِى‏}‏ يعني‏:‏ قال ابنه‏:‏ سأصعد ‏{‏إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء‏}‏ يعني‏:‏ يمنعني من الماء، أم من الغرق، ولا أؤمن، ولا أركب السفينة، ‏{‏قَالَ‏}‏ نوح‏:‏ ‏{‏لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ يقول‏:‏ لا مانع اليوم من عذاب الله، أي الغرق، لا جبل ولا غيره ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ‏}‏ يعني‏:‏ إلا من قد آمن، فعصمه الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج‏}‏ يعني‏:‏ فرَّقَ بين كنعان، وبين الجبل الموج، وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وحال بينهما، يعني بين نوح وابنه الموج، ‏{‏فَكَانَ مِنَ المغرقين‏}‏ يعني‏:‏ فصار من المغرقين‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أمطرت السماء أربعين يوماً، وخرج ماء الأرض أربعين يوماً الليل والنهار، فذلك قوله‏:‏

‏{‏فَفَتَحْنَآ أبواب السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 11، 12‏]‏ وارتفع الماء على كل جبل في الأرض، خمسة عشر ذراعاً‏.‏ وروي عن الحسن، أنه قال‏:‏ ارتفع الماء فوق كل جبل، وكل شيء، ثلاثين ذراعاً‏.‏ وسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر، ما استقرت على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة، وهو البيت المعمور، وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس‏.‏ ويقال‏:‏ أودع فيه، ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي، وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ركب نوح السفينة لعشر مضين من رجب، وخرج منها يوم عاشوراء، فذلك ستة أشهر، فلما استقرت على الجودي، كشف نوح الطبق الذي فيه الطير، فبعث الغراب ليأتيه بالخبر فأبصر جيفة، فوقع عليها فأبطأ على نوح، فلم يأته، ثم أرسل الحدأة على أثره، فأبطأت عليه، ثم أرسل بالحمامة فلم تجد موقفاً في الأرض، فجاءت بورق الزيتون، فعرف نوح أن الماء قد نقص، فظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقفت على الأرض، فغابت رجلاها في الطين فجاءت إلى نوح، فعرف أن الأرض قد ظهرت‏.‏

وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ‏}‏ معناه‏:‏ انشفي ماءك الذي خرج منك ‏{‏مَاءكِ وياسماء أَقْلِعِى‏}‏ يعني‏:‏ احبسي وامسكي ‏{‏وَغِيضَ الماء‏}‏ يعني‏:‏ نقص الماء، وظهرت الجبال والأرض، ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏ يعني‏:‏ فرغ من الأمر، ومعناه‏:‏ نجا من نجا وهلك من هلك ‏{‏واستوت عَلَى الجودى‏}‏ يعني‏:‏ استقرت السفينة على الجودي‏.‏ وروي في الخبر‏:‏ أن الله تعالى أوحى إلى الجبال، أني أنزل السفينة على جبل، فتشامخت الجبال، وتواضع الجودي لله تعالى، فأرسيت عليه السفينة‏.‏ وقال الحكيم‏:‏ خرج قوس قزح بعد الطوفان أماناً لأهل الأرض أن يغرقوا جميعاً ‏{‏وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ سحقاً ونكساً للقوم الكافرين، وهو التبعيد من رحمة الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى‏}‏ فإنك قد وعدتني، أن تنجيهم من العذاب، ‏{‏وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق‏}‏ يعني‏:‏ أنت الصَّادق في وعدك، ‏{‏وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين‏}‏ يعني‏:‏ أعدل العادلين ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ *** نُوحٍ إِنَّهُ *** لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ الذي وعدتك أن أنجيهم‏.‏ وروي عن الحسن، أنه قال‏:‏ إنه تخلف، لأنه لم يكن ابن نوح‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال‏:‏ كنت عند الحسن، قال‏:‏ ونادى نوح ابنه، فقال‏:‏ لعمر الله ما هو ابنه، قلت‏:‏ يا أبا سعيد، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى نُوحٌ ابنه‏}‏ وأنت تقول‏:‏ هو ليس بابنه‏؟‏ قال‏:‏ أفرأيت قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ قلت‏:‏ إنه ليس من أهلك، الذي وعدتك أن أنجيهم‏.‏ ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه‏.‏ قال‏:‏ إنَّ أهل الكتاب يكذبون‏.‏

وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، أنه ابنه غير أنه خالفه في العمل‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ إن الابن إذا لم يفعل ما يفعل الأب انقطع عنه، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيُّهم، أخاف أن ينقطعوا عنه‏.‏

ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح‏}‏، بكسر الميم ونصب الراء‏.‏ وروت أُمُّ سَلَمَةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ هكذا، ومعناه‏:‏ إن ابنك عمِلَ عَمَلَ المشركين، ولم يعمل عمل المؤمنين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏عَمَلٌ غَيْرُ‏}‏، بالتنوين والضم، وضم الراء، ومعناه‏:‏ إنَّ سؤالك ودعاءك لابنك الكافر عَمَلٌ غير صالح، ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى *** مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يعني‏:‏ بياناً‏.‏ وقرأ أهل الكوفة‏:‏ فلا تسألن بتخفيف النون بغير ياء، لأن الكسر يقوم مقام الياء‏.‏ وروي عن أبي عبيدة، أنه قال‏:‏ رأيت في مصحف عثمان هكذا‏.‏

وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بإثبات الياء بغير تشديد، وهو الأصل في اللغة‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بنصب النون والتشديد بغير ياء، ويكون معناه‏:‏ التأكيد في النهي‏.‏ وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية قالون‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بالكسر بغير ياء مع التشديد‏.‏ وقرأ نافع في رواية ورش‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْأَلْنى‏}‏ بالياء مع التشديد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ أي أنهاك أن تكون من الجاهلين‏.‏ يعني‏:‏ من يترك أمري‏.‏ ويقال‏:‏ من المكذبين بقدر الله تعالى‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ‏}‏، يعني‏:‏ اعتصم وامتنع بك ‏{‏أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يعني‏:‏ احفظني بعد اليوم، لكيلا أسألك ما ليس به علم ‏{‏وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى‏}‏ يعني‏:‏ إن لم تغفر لي، ولم ترحمني، ‏{‏أَكُن مّنَ الخاسرين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيلَ يانوح *** نُوحٌ اهبط بسلام مّنَّا‏}‏ يعني‏:‏ انزل من السّفينة مسلّماً من عذابنا، وغرقنا‏.‏ ويقال‏:‏ بسلام عليك، كما قال‏:‏ ‏{‏سلام على نُوحٍ فِى العالمين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏وبركات‏}‏ يعني‏:‏ وسعادات ‏{‏عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين كانوا في السفينة معه، ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من كان من أهل الشّقاء سنمتِّعهم في الدنيا ‏{‏ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يَصِيبهم في الآخرة، وقَالَ مقاتل‏:‏ اهبط من السفينة بسلام منا‏.‏ فسلمه الله ومن معه من الغرق وبركات عليك وعلى أمم ممن معك‏.‏ يعنى بالبركة إنهم توالدوا وكثروا ‏{‏وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ‏}‏، وهم قوم هود، وشعيب، ولوط‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي في قوله‏:‏ ‏{‏اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ دخل في السلام والبركة، كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في المتاع والعذاب، كل كافر إلى يوم القيامة‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم لمَّا خرجوا من السفينة، بنوا مدينة وسموها‏:‏ مدينة ثمانين، ويقال‏:‏ ماتوا كلهم، ولم يكن منهم نسل، إلا من أولاد نوح، وكان له ثلاثة بنين سام وحام ويافث، سوى الذي غرق كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 77‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 56‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب‏}‏ يعني‏:‏ ما سبق من ذكر نوح، وقومه في أخبار الغيب، يعني‏:‏ من أحاديث ما غاب عنك، فكان في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قصته دلالة نُبُوَّته، لأنه لا يُعْرَفُ ذلك إلاّ بالوحي‏.‏ ‏{‏نُوحِيهَا إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ أخبار الغيب ينزل بها عليك جبريل ‏{‏مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا‏}‏ القرآن، ‏{‏فاصبر‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يصدِّقوك فاصبر على تكذيبهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ يعني‏:‏ آخر الأمر للموحدين، الذين يتقون الشرك والفواحش‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عَادٍ‏}‏ يعني‏:‏ أرسلنا إلى عاد ‏{‏أخاهم‏}‏ نبيُّهم ‏{‏هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله‏}‏ يعني‏:‏ وحِّدُوا الله، ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ يعني‏:‏ ليس لكم من رب سواه، ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما أنتم إلا تكذبون في مقالتكم بأن لله شريكاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصالحات قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على الإيمان ‏{‏أَجْراً‏}‏ يعني‏:‏ جعلاً، ورشوة‏.‏ ومعناه لست بطامع في أموالكم، ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ يعني‏:‏ ما ثوابي ‏{‏إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى‏}‏ يعني‏:‏ خلقني ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن الذي خلقكم هو ربكم، وهو أحق بعبادتكم من غيره‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِسْرَاراً فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ وحِّدوا ربكم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ صلُّوا لربكم‏.‏ ويقال معناه‏:‏ قولوا‏:‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا، ‏{‏ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ توبوا إليه من شرككم ‏{‏يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ يعني‏:‏ إن تبتم يغفر لكم ذنوبكم، ويرسل عليكم المطر متتابعاً دائماً، وينبت لكم كل ما تحتاجون إليه، ‏{‏وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ شدة مع شدتكم بالماء والولد‏.‏ ويقال‏:‏ صحة الجسم، وطول العمر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ‏}‏ يقول‏:‏ لا تُعْرِضُوا كافرين‏.‏ ويقال‏:‏ لا تعرضوا عما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ بحجة وبيان ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ‏}‏ يقول‏:‏ لا نترك عبادة آلهتنا بقولك ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لا نصدقك بأنك رسول الله ‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك‏}‏ يعني‏:‏ ما نقول‏:‏ إلا أصابك ‏{‏بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء‏}‏ يعني‏:‏ بشرٍّ من بعض الأوثان، الجنون، والخبل فاجتنبها سالماً‏.‏ ويقال‏:‏ ما نقول لك إلا نصيحة، كيلا يصيبك من بعض آلهتنا شدة‏.‏

فردّ عليهم هود ف ‏{‏قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا‏}‏ أنتم ‏{‏إِنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ *** مِن دُونِهِ‏}‏ من الأوثان ‏{‏فَكِيدُونِى جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ اعملوا بي أنتم وآلهتكم ما استطعتم، واحتالوا في هلاكي ‏{‏ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ‏}‏ أي لا تمهلون‏.‏ ثمّ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ فَوَّضْتُ أمري إلى الله، ‏{‏رَبّى وَرَبَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم، ‏{‏مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا‏}‏ يعني‏:‏ قادراً عليها يحييها ويميتها، وهو يرزقها، وهي في ملكه، وسلطانه‏.‏

ثمّ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ على الحقّ، وإن كان هو قادراً على كل شيء، فإنه لا يشاء إلا العدل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إن ربي على صراط مستقيم، يعني‏:‏ على الحق‏.‏ ويقال‏:‏ على صراط مستقيم، يعني‏:‏ بيده الهدى، وهو يهدي إلى صراط مستقيم، وهو دين الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ يدعوكم إلى طريق الإسلام‏.‏ ويقال معناه‏:‏ أمرني ربي أن أدعوكم إلى صراط مستقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يعني‏:‏ تتولوا، ومعناه، إن أعرضتم عن الإيمان، فلم تؤمنوا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏هَآ أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغنى وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ‏{‏فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إن تتولوا، فأنا معذور، لأني قد أبلغتكم الرسالة، ‏{‏وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ إن شاء‏.‏ ويقال‏:‏ قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، من التوحيد، ونزول العذاب في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى‏}‏ بعد هلاككم ‏{‏قَوْماً غَيْرَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خيراً منكم وأطوع لله تعالى‏.‏

‏{‏وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ إن لم تؤمنوا به، فلا تنقصون من ملكه شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ إهلاككم لا ينقصه شيئاً ‏{‏إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ‏}‏ يعني‏:‏ حافظاً، ولا يغيب عنه شيء‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ حفظ كل شيء عليه‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ يعني‏:‏ عذابنا، وهو الريح العقيم ‏{‏نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ يعني‏:‏ بنعمة منا ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ يعني‏:‏ من العذاب الذي عذب به عاد في الدنيا ومما يعذبون به في الآخرة ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏عَادٌ جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ‏}‏ يعني‏:‏ كذبوا بعذاب ربهم، أنه غير نازل بهم، ومعناه يا أهل مكة، انظروا إلى حالهم، كيف عذبوا في الدنيا، وفي الآخرة‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا إِنَّ فِى ذلك لاّيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏ فكذلك هاهنا، ‏{‏عَادٌ جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ‏}‏ بَيَّنَ جرمهم، ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ‏}‏ يعني‏:‏ هوداً خاصة، ويقال‏:‏ معناه كذبوا هوداً، بما أخبرهم عن الرشد، ‏{‏واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ عملوا بقول كل جبار‏.‏ ويقال‏:‏ أخذوا بدين كل جبار‏.‏ والجبار الذي يضرب، ويقتل عند الغضب، ‏{‏عَنِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ معرضاً، ومجانباً عن الحق‏.‏

ثمّ بَيَّنَ عقوبتهم، فقال‏:‏ ‏{‏واتبعوا‏}‏ يعني‏:‏ ألحقوا ‏{‏فِى هذه الدنيا لَعْنَةً‏}‏ يعني‏:‏ العذاب والهلاك، وهي الريح العقيم‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة‏}‏ لعنة أُخرى، وهو عذاب النار إلى الأبد ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏، وهذا تنبيه للكفار أن عاداً كفروا ربهم، فأهلكهم الله تعالى، فاحذروا كيلا يصيبكم بكفركم، ما أصابهم بكفرهم، ويقال‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ينادي مناد يوم القيامة، لإظهار حالهم ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ وقال الضّحَّاك‏:‏ ترفع لهم راية الغدر يوم القيامة، فينادي منادٍ يوم القيامة‏:‏ هذه غدرة قوم عاد، فيلعنهم الملائكة، وجميع الخلق‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا‏}‏ يعني‏:‏ خزياً وسحقاً ‏{‏لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا‏}‏ يعني‏:‏ وأرسلنا إلى ثمود‏.‏ وإنما لم ينصرف، لأنه اسم لقبيلة، وفي الموضع الذي ينصرف، جعله اسماً للقوم‏.‏ ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ وَحِّدُوا الله، وأطيعوه، ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ يعني‏:‏ ليس لكم رب غيره ‏{‏هُوَ أَنشَأَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ هو الذي خلقكم، ‏{‏مّنَ الارض‏}‏ يعني‏:‏ خلق آدم من أديم الأرض، وأنتم ولده، ‏{‏واستعمركم فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ أسكنكم وأنزلكم فيها، وأصله أعمركم‏.‏ يقال‏:‏ أعمرته الدار إذا جعلتها له أبداً، وهي العُمْرَى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏واستعمركم‏}‏ يعني‏:‏ أطال عمركم فيها ‏{‏فاستغفروه ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ توبوا من شرككم، ‏{‏إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ‏}‏ يعني‏:‏ قريباً ممن دعاه، مجيباً بالإجابة لمن دعاه، من أهل طاعته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا * صالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا‏}‏ يعني‏:‏ كنا نرجو أن ترجع إلى ديننا، قبل أن تدعونا إلى دين غير دين آبائنا، ‏{‏قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ‏}‏ يعني‏:‏ يريبنا أمرك، ودعاؤك إيانا، إلى هذا الدين‏.‏ ومعناه‏:‏ إنا مريبون في أمركم‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ لهم صالح‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏، يقول‏:‏ أخبروني إن كنت على بيان، وحجة، ودين، أتاني من ربي، ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أكرمني الله تعالى بالإسلام، والنبوة؛ أيجوز لي أن أترك أمره، ولا أدعوكم إلى الله، وإلى دينه‏؟‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ يقول‏:‏ فمن يمنعني من عذاب الله، إن رجعت إلى دينكم، وتركت دين الله تعالى‏.‏

‏{‏فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ يقول ما تزيدونني في مقالتكم، إلا بصيرة في خسارتكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ فما تزيدونني غير تكذيب، لأن التكذيب سبب لخسارتهم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ فما تزيدونني، إن تركت ما أوجب الله عليَّ من الدعوة غير تخسير؛ لأن العذاب إذا نزل بي لا تقدرون على دفعه عني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ «إنَّ صَالِحاً، لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ إلى الإسلامِ كَذَّبُوهُ، فَضَاقَ صَدْرُهُ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يَأذَنَ لَهُ بِالخُرُوج مِنْ عِنْدِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ وَانْتَهَى إلى سَاحِلِ البَحْرِ، فَإذا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى المَاءِ، فقالَ لهُ صَالحٌ‏:‏ وَيْحَكَ مَنْ أنْتَ‏؟‏ فقالَ‏:‏ أنا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ‏.‏ قالَ‏:‏ كُنْتُ في سَفِينَةٍ كَانَ قَوْمُهَا كَفَرَةً غَيْرِي، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَجَّانِي مِنْهُم، فَخَرَجْتُ إلى جَزِيرَةٍ أتَعَبَّدُ هُناكَ، فَأَخْرُجُ أحْيَاناً وَأطْلُبُ شَيْئاً مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أرْجِعُ إلى مَكَانِي فَمَضَى صَالِحٌ، وَانْتَهَى إلى تَلَ عَظِيم، فَرَأَى رَجُلاً يَتَعَبَّدُ، فَانْتَهَى إلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، فقالَ لَهُ صَالِحٌ مَنْ أنْتَ‏؟‏ قال‏:‏ كَانَتْ هاهُنَا قَرْيَةٌ، كانَ أهْلُهَا كُفّاراً غَيْرِي، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تعالى، وَنَجَّانِي مِنْهُم، فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أنْ أَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هاهنا إلى المَوْتِ، وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِي شَجَرَةَ رُمَّانٍ، وَأَظْهَرَ لِي عَيْنَ ماءٍ، فآكُلُ مِنَ الرُّمَّانِ، وَأشْرَبُ مِنْ ماءِ العَيْن، وَأَتَوَضّأ مِنْهُ‏.‏ فَذَهَبَ صالحٌ، وَانْتَهَى إلى قَرْيَةٍ كانَ أَهْلُها كُفَّاراً كُلُّهُمْ، غَيْرَ أَخَوَيْن مُسْلِمَيْنِ يَعْمَلان عَمَلَ الخُوصِ فَضَرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مثلاً قال‏:‏ لَوْ أنَّ مُؤْمِناً دَخَلَ قَريَةً فِيها ألفُ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ كُفّارٌ، وفِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُهُ مَعَ أحَدٍ، حَتَّى يَجِد المُؤْمِنَ‏.‏ وَلَوْ أنَّ مُنَافِقاً دَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُ المُنَافِقِ مَعَ أحَدٍ، ما لَمْ يَجِدِ المُنَافِقَ‏.‏

فَدَخَلَ صَالِحٌ، فانتهى إلى الأَخَوَيْن، وَمَكَثَ عِنْدَهُمَا أياماً‏.‏ وَسَأَلَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا يَصْبِرَانِ عَلَى إيذاءِ المُشْركِينَ، وَأَنَّهُمَا يَعْمَلانِ عَمَلَ الخُوصِ، وَيُمْسِكانِ قُوتَهُمَا، وَيَتَصَدَّقَانِ بِالفَضْلِ‏.‏ فَقالَ صَالِحٌ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرَانِي في الأرْضِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى أذَى الكُفَّارِ، فأنا أرْجِعُ إلى قَوْمِي، وَأَصْبِرُ عَلَى أذاهُمْ‏.‏ فَرَجَعَ إليْهِمْ، وَقَدْ كانُوا خَرَجُوا إلى عِيدِ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فَسَألُوا مِنْهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرَةِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأخْرَجَ لَهُمْ ناقةً عُشَرَاءَ»‏.‏

فذلك قوله‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة وعبرة، ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله‏}‏ يعني‏:‏ في أرض الحجر ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ يعني‏:‏ لا تعقروها ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ يصيبكم ‏{‏عَذَابٌ قَرِيبٌ‏}‏‏.‏

فولدت الناقة ولداً وكانت لهم بئر واحدة عذبة، قال ابن عباس‏:‏ كان للناقة شرب يوم لا يقربونها، ولهم شرب يوم، وهي لا تحضرها، وكانوا يستقون الماء في يومهم ما يكفيهم للغد، فيقسمونه فيما بينهم، فإذا كان يوم شربها، كانت ترتع في الوادي، ثم تجيء إلى البئر، فتبرك، فتدلي رأسها في البئر، فتشرب منها، ثم تعود فترعى، ثم تعود إلى البئر، فتشرب منها، فتفعل ذلك نهارها كله‏.‏

وكان في المدينة تسعة رهط، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون‏.‏ منهم‏:‏ قدار بن سالف، ومصدع بن دهر وكانت في تلك القرية امرأة جميلة غنية، وكانت تتأذى بالناقة لأجل سايمتها فقالت‏:‏ مَنْ عقر الناقة، أزوج نفسي منه‏.‏ فخرج قدار بن سالف، ومصدع بن دهر، وكمن لها مصدع في مضيق من ممرها، ورماها بسهم، فأصاب رجلها‏.‏ فَمَرَّتْ بقدار، وهي تجر رجلها، فضربها بالسيف فعقرها، وقسموا لحمها على جميع أهل القرية‏.‏ وكان في القرية تسعمائة أهل بيت ويقال ألف وخمسمائة‏.‏

فذلك قوله ‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ‏}‏ لهم صالح‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عيشوا، وانتفعوا في داركم، ‏{‏ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ثمَّ يأتيكم العذاب، ‏{‏ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ فقالوا له‏:‏ ما العلامة في ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة‏.‏ ثم خرج صالح من بينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ يعني‏:‏ عذابنا ‏{‏نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ يعني‏:‏ بنعمة منا، ‏{‏وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ يعني‏:‏ من عذاب يومئذ‏.‏ قرأ نافع، والكسائي‏:‏ ‏{‏وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ بنصب الميم، لأنه إضافة إلى اسم غير متمكن، فيجوز النصب‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏، بكسر الميم، على معنى الإضافة‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز‏}‏ أخبر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، أنه قادر في أخذه المنيع، ممن عصاه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة‏}‏ يعني‏:‏ صيحة جبريل صاح صيحة، فماتوا كلهم، ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ يعني‏:‏ صاروا خامدين ميتين، ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ صاروا كأن لم يكونوا في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ كأن لم ينزلوا في ديارهم، ولم يكونوا‏.‏

‏{‏إِلا أَنْ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ جحدوا وحدانية الله فهذا تنبيه، وتخويف لمن بعدهم ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ‏}‏ يعني‏:‏ خزياً، وسحقاً لثمود في الهلاك‏.‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ‏}‏ بكسر الدال مع التنوين، وجعله اسماً للقوم، فلذلك جعله منصرفاً‏.‏ وقرأ الباقون بنصب الدال، لأنه اسم القبيلة‏.‏ وإنما يجري في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ‏}‏ اتباعاً للكتابة في مصحف الإمام، وأما الكسائي، فأجراه لقربه من قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى‏}‏ يعني‏:‏ ببشارة الولد‏.‏ وذلك أن مدينة يقال لها‏:‏ سدوما‏.‏ ويقال‏:‏ سدوم، وكانت بلدة فيها من السعة والخير، ما لم يكن في سائر البلدان وكان الغرباء يحضرون من سائر البلدان، في أيام الصيف، ويجمعون من فضل ثمارهم، مما كان خارجاً من الكروم، والحدائق‏.‏ فجاء إبليس لعنه الله، فشبه نفسه بغلام أمرد، وجعل يدخل كرومهم، وحدائقهم، ويراودهم إلى نفسه، حتى أظهر فيهم الفاحشة‏.‏

وجاء إلى نسائهم، وقال‏:‏ إن الرجال قد استغنوا عنكن، فعلَّمَهُنَّ أن يستغنين عن الرجال، حتى استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء‏.‏ فأوحى الله تعالى إلى لوط، ليدعوهم إلى الإيمان، ويمتنعوا عن الفواحش، فلم يمتنعوا‏.‏ فبعث الله جبريل، ومعه أحد عشر من الملائكة بإهلاكهم، فجاؤوا إلى إبراهيم كهيئة الغلمان، فدخلوا على إبراهيم، فنظر فرأى اثني عشر غلاماً أمرد، ويقال‏:‏ كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ويقال‏:‏ كانو أربعة، فسلموا عليه ‏{‏قَالُواْ سلاما قَالَ سلام‏}‏ يعني‏:‏ ردّ عليهم السلام‏.‏

قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، ‏{‏قَالُواْ سلاما قَالَ سلام‏}‏، كلاهما سلام، إلا أن الأول صار نصباً، لوقوع الفعل عليه؛ والآخر رفعاً بالحكاية‏.‏ ومعناه‏:‏ قال‏:‏ قولاً‏:‏ فيه سلام‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سلاما قَالَ *** سلام‏}‏ بكسر السين، وسكون اللام، يعني‏:‏ أمري سلم، ما أريد إلا السلامة‏.‏ ‏{‏فَمَا لَبِثَ‏}‏ يعني‏:‏ فما مكث ‏{‏أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ قال السِّدِيّ‏:‏ الحنيذ السمين، كما قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 26‏]‏ ويقال‏:‏ حنيذ، يعني‏:‏ نضيج‏.‏ ويقال‏:‏ المشوي الذي يقطر منه الدسم‏.‏ وقال أهل اللغة بأجمعهم‏:‏ الحنيذ، المشوي بغير تنور، وهو أن يتخذ له في الأرض حنذاً، فيلقى فيه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إنما جاءهم بعجل، لأنه كان أكثر ماله البقر، فلما قربه إليهم ووضع بين أيديهم كفوا ولم يأكلوا، ولم يتناولوا منه‏.‏

‏{‏فَلَماَّ رَأَى‏}‏ إبراهيم ‏{‏أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا تصل إلى الطعام ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أنكرهم ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ يعني‏:‏ وأضمر منهم خوفاً، حيث لم يأكلوا من طعامه، وظن أنهم لصوص‏.‏ وذلك أنه في ذلك الزمان إذا لم يأكل أحد من طعام إنسان، يخاف عليه عائلته، ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ بهلاكهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما لم يأكلوا من الطعام، قال لهم إبراهيم‏:‏ ما لكم لا تأكلون طعامي‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا قوم لا نأكل طعاماً إلا بثمن‏.‏ فقال إبراهيم‏:‏ إن لطعامي ثمناً، فأصيبوا منه‏.‏ قالوا‏:‏ وما ثمنه‏؟‏ قال‏:‏ تذكرون اسم الله عليه في أوله، وتحمدونه في آخره‏.‏ فقال جبريل لميكائيل‏:‏ حق له أن يتخذه الله خليلاً‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ‏}‏ وفي الآية تقديم، يعني‏:‏ بشرناها بإسحاق، فضحكت سروراً‏.‏ ويقال‏:‏ ضحكت تعجباً من خوف إبراهيم، ورعدته في حشمه، وخدمه، ولم يخف، ولم يرتعد من نمرود الجبار حين قذفه في النار، وهذا قول القتبي‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ضحكت، يعني‏:‏ حاضت‏.‏ يقال‏:‏ ضحكت الأرنب، إذا حاضت‏.‏ وغيره من المفسرين يجعلها الضحك بعينه، وكذلك هو في التوراة‏.‏ قرأت فيها أنها حين بشرت بالغلام، ضحكت في نفسها، وقالت‏:‏ من بعد ما بليت، أعود شابة‏؟‏ وقال قتادة‏:‏ ضحكت من أمر القوم، وغفلتهم، وجبريل جاءهم بالعذاب، يعني‏:‏ قوم لوط ‏{‏فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ قال الشعبي‏:‏ الوراء، ولد الولد‏.‏ وروى حبيب بن أبي ثابت، أن رجلاً دخل على ابن عباس، ومعه ابن ابنه، فقال له‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال ابن ابني‏.‏ فقال‏:‏ ابنك من وراء فوجد الرجل في نفسه، فقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ومن بعد إسحاق يعقوب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الوراء ولد الولد‏.‏

وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم في رواية حفص، بنصب الباء، وقرأ الباقون بالضم‏.‏ فمن قرأ بالضم، فهو على معنى الابتداء، يعني‏:‏ ويكون من وراء إسحاق، يَعْقُوبُ‏.‏ ومن قرأ بالنصب، فهو عطف على الباء في قوله‏:‏ ‏{‏بإسحاق‏}‏ فيكون في موضع الخفض، إلا أنه لا ينصرف‏.‏

‏{‏قَالَتْ ياأيها * ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا‏}‏ يعني‏:‏ عقيماً لم ألد قط، وقد كبرت في السن، ‏{‏وهذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ كانت سارة بنت ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، أكبر منها بسنة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسع وتسعين سنة، ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ‏}‏ أي‏:‏ لأمر عجيب ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ يعني‏:‏ من قدرة الله ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ‏}‏ يعني‏:‏ نعمته وسعادته عليكم، ‏{‏أَهْلَ البيت‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل البيت‏.‏ ويقال‏:‏ أتعجبين‏؟‏ أي ألا تعلمين أن رحمة الله، وبركاته عليكم، أن يستخرج الأنبياء كلهم من هذا البيت‏؟‏ وقال السدي‏:‏ أخذ جبريل عوداً من الأرض يابساً، فدلكه بين أصبعيه، فإِذا هو شجرة تهتز، فعرفت أنه من الله تعالى‏.‏ ثم قال ‏{‏إِنَّهُ حَمِيدٌ‏}‏ في فعاله، ويقال‏:‏ حميد لأعمالكم، ‏{‏مَّجِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ شريف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع‏}‏ يعني‏:‏ الفزع من الرسل ‏{‏وَجَاءتْهُ البشرى‏}‏ بالولد، ‏{‏يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ يعني‏:‏ يخاصم ويتشفع في قوم لوط‏.‏ وكان لوط ابن أخيه، وهو لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر، ويقال‏:‏ ابن عمه، وسارة كانت أخت لوط؛ فلما سمعا بهلاك قوم لوط، اغتما لأجل لوط‏.‏ وروى معمر، عن قتادة، قال لهم‏:‏ أرأيتم لو كان فيها خمسون من المسلمين، أتعذبونهم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نعذبهم‏.‏ قال‏:‏ أربعون‏؟‏ قالوا‏:‏ ولا أربعون‏.‏ قال‏:‏ ثلاثون‏؟‏ قالوا ولا ثلاثون، حتى بلغوا عشرة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فما زال ينقص خمسة خمسة، حتى انتهى إلى خمسة أبيات، يعني‏:‏ لو كان فيها خمسة أبيات من المسلمين لم يعذبهم‏.‏

ثمّ قال ‏{‏إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏}‏ الأواه‏:‏ الذي إذا ذكر الله تعالى تأوه‏.‏ منيب‏:‏ أي راجع إليه بالتوبة‏.‏ وقد ذكرناه في سورة التوبة‏.‏ ثم قال جبريل ‏{‏مُّنِيبٌ يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ يعني‏:‏ اترك جدالك ‏{‏إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ عذاب ربك ‏{‏وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ يعني‏:‏ غير مصروف عنهم‏.‏

ثم خرجوا من عند إبراهيم، متوجهين إلى قوم لوط، فانتهوا إليهم نصف النهار، فإذا هم بجواري يسقين من الماء، فأَبصرتهم ابنة لوط، وهي تستقي من الماء، فقالت لهم‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ ومن أين أقبلتم‏؟‏ وأين تريدون‏؟‏ قالوا أقبلنا من مكان كذا، ونريد مكان كذا‏.‏ فأخبرتهم عن حال أهل المدينة، وخبثهم، فأظهروا الغم من أنفسهم، فقالوا‏:‏ هل أحد يضيفنا‏؟‏ قالت‏:‏ ليس فيها أحد يضيفكم، إلا ذلك الشيخ، وأشارت إلى أبيها لوط، وهو على بابه‏.‏ فأتوا لوطاً فلما رآهم وهيئتهم، ساءه ذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 83‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِئ بِهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ ساءه مجيئهم، ‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ يعني‏:‏ صدره اغتماماً، ومخافة عليهم، لا يدري أيأمرهم بالرجوع أم بالنزول‏؟‏ ‏{‏وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ يعني‏:‏ شديد‏.‏ ثم قال لامرأته‏:‏ ويحك، قومي واخبزي، ولا تعلمي أحداً‏.‏ وكانت امرأته كافرة منافقة، فانطلقت تطلب بعض حاجاتها، وجعلت لا تدخل على أحد إلا أعلمته، وتقول‏:‏ إن عندنا قوماً من هيئتهم كذا وكذا‏.‏ فلما علموا بذلك، جاؤوا إلى باب لوط‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ يسرعون إليه، وهو مشي بين المشيتين، ويقال‏:‏ يدفعون إليه دفعاً، ويقال يشتدون إليه شداً، ‏{‏وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن يبعث إليهم لوط، ويقال‏:‏ من قبل إتيان الرسل، كانوا يعملون الفواحش، وهي اللواطة والكفر، فلما أرادوا الدخول، ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم لوط‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أحل لكم من ذلك، وكان لوط يناظرهم، ويقول‏:‏ هن أطهر لكم، وكان جبريل مع أحد عشر من الملائكة، وكسروا الباب، فضرب أعينهم‏.‏

قال الضحاك‏:‏ ‏{‏هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ عرض عليهم بنات قومه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء، وقال‏:‏ هن أطهر لكم، ولم يعرض عليهم بناته‏.‏ وروى سفيان عن ليث، عن مجاهد، قال‏:‏ لم يكنَّ بناته، ولكن كُنَّ من أمته، وكل نبي هو أب أمته‏.‏ وروي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكتاب مَسْطُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ وهو أب لهم، وهي قراءة أبي بن كعب‏.‏ وهكذا قال سعيد بن جبير‏:‏ إنه أراد بنات أمته‏.‏

ويقال‏:‏ إن رؤساءهم كانوا خطبوا بناته، وكان يأبى، فقال لهم‏:‏ إني أزوجكم بناتي، هنّ أطهر لكم من الحرام، وكان النكاح بين الكافر والمسلم جائزاً ‏{‏فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى‏}‏ يقول‏:‏ لا تفضحوني في أضيافي ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ مرشداً صالحاً يزجركم عن هذا الأمر‏.‏ ويقال‏:‏ رجل عاقل، ويقال‏:‏ رجل على الحق يستحي مني‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ‏}‏ يعني‏:‏ من حاجة، ويقولون‏:‏ ما لنا في النساء من حاجة ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ إنما نريد الأضياف ف ‏{‏قَالَ‏}‏ لوط‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ يعني‏:‏ منعة بالولد ‏{‏أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏، أي‏:‏ أرجع إلى عشيرة كثيرة، يعني‏:‏ لو كانت لي عشيرة ومنعة لمنعتكم مما تريدون‏.‏

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«رَحِمَ اللَّهُ لُوطاً لَقَدْ أَوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» يعني‏:‏ إن الله ناصره وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ ما بعث الله نبياً بعد لوط، إلا في عز من قومه‏.‏ ويقال‏:‏ لما أرادوا الدخول، وضع جبريل يده على الباب، فلم يقدروا على فتحه، فكسروا الباب ودخلوا فامتلأت داره، فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم، كما قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 37‏]‏ فرجعوا وقالوا‏:‏ يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا، والله لنهلكنك غداً‏.‏

فلما سمع لوط تهديدهم إياه، ساءه صنيع القوم وخاف، فلمَّا رأى جبريل ما دخله ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** لُوطٍ إِنَّا *** رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئاً، ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ سر وادلج بأهلك ‏{‏بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ القطع من الليل، آخر السحر، وقد بقيت منه قطعة‏.‏ وقال السدي‏:‏ سألت أعرابياً عن قوله‏:‏ ‏{‏بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏ قال‏:‏ ربع الليل ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ يعني‏:‏ لا يتخلف منكم أحد ‏{‏إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا‏}‏ من العذاب، ‏{‏مَا أصابهم‏}‏‏.‏

قرأ ابن كثير، ونافع‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ‏}‏ بجزم الألف، وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ‏}‏، ومعناهما واحد‏.‏ يقال‏:‏ سريت وأسريت، إذا سرت بالليل‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ بضم التاء، وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ فمن قرأ بالنصب، انصرف إلى الإسراء، يعني‏:‏ أسر بأهلك إلا امرأتَكَ، على معنى الاستثناء؛ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ فاسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتَكَ‏.‏ ومن قرأ بالضم، فهو ظاهر، يعني‏:‏ أنها تتخلف مع الهالكين‏.‏

وقال لوط، لجبريل عليه السلام‏:‏ إن أبواب المدينة قد أُغلقت، فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزغورا، فحمل جبريل لوطاً، وابنتيه، وماله على جناحه إلى مدينة ذعر، وهي إحدى مدائن لوط، وهي خمس مدائن، وهي على أربعة فراسخ من سدوما، ولم يكونوا على مثل عملهم‏.‏

فقال له جبريل ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ يعني‏:‏ هلاكهم وقت الصبح‏.‏ فقال لوط‏:‏ يا جبريل، الآن عجل هلاكهم‏.‏ فقال له جبريل‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ‏}‏ فلما كان وقت الصبح، أدخل جبريل جناحه تحت أرض المدائن الأربعة، فاقتلعها من الماء الأسود، ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح وصياح الديك‏.‏ ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً‏}‏‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ لما رفعت إلى السماء، أمطر الله عليهم الكبريت والنار، ثم قلبت‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أمطر على أهلها من كان خارجاً من المدائن الأربعة، حجارة ‏{‏مّن سِجّيلٍ‏}‏ يعني‏:‏ من طين مطبوخ، كما يطبخ الآجر، ‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ يعني‏:‏ متتابع بعضه على أثر بعض‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ سجيل بالفارسية‏:‏ سنج وجك، كقوله‏:‏ ‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏ وروي عن ابن عباس، في بعض الروايات، قال‏:‏ سنك وكل‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ السجيل‏:‏ الشديد، منضود‏:‏ أي ملتزق بالحجارة‏.‏

‏{‏مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ‏}‏ قال الفراء مخططة بالحمرة، والسواد في البياض‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ مسومة، أي‏:‏ معلمة‏.‏ ويقال‏:‏ مكتوب على كل حجر، اسم صاحبه الذي يصيبه‏.‏ ويقال‏:‏ مختمة‏.‏ وقال وكيع‏:‏ رفع إلي حجر منها بطرسوس‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ من قوم لوط عليه السلام ويقال‏:‏ هذا تهديد لأهل مكة، وغيرهم من المشركين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ لكيلا يعملوا مثل عملهم‏.‏ ويقال‏:‏ ما هن من الظالمين ببعيد‏.‏ قريات لوط ليست ببعيدة من أهل مكة، فأمرهم بأن يعتبروا بها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سجيل، يعني‏:‏ ما كتب لهم أن يعذبوا به‏.‏ ويقال‏:‏ سجيل من سجلته، يعني‏:‏ أرسلته، ومعناه‏:‏ حجارة مرسلة عليهم، ويقال‏:‏ كثيرة شديدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 89‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم‏}‏ يعني‏:‏ وأرسلنا إلى مدين أَخَاهُمْ ‏{‏شُعَيْبًا قَالَ ياقوم *** قَوْمٌ *** اعبدوا الله‏}‏ يعني‏:‏ وحدوا الله وأطيعوه، ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ يعني‏:‏ ليس لكم رب سواه، ‏{‏وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان‏}‏ في البيع والشِّراء، ‏{‏إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ بسعة في المال، والنعمة، ‏{‏وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم ترجعوا عن نقصان المكيال والميزان، تزول عنكم النعمة والسعة، ويصيبكم القحط والشدة وعذاب الآخرة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إني أراكم بخير يعني‏:‏ برخص السعر‏.‏

‏{‏مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان‏}‏، يعني‏:‏ أتموا الكيل والوزن ‏{‏بالقسط‏}‏ يقول‏:‏ بالعدل ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا تنقصوا الناس حقوقهم ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تسعوا في الأرض، بالفساد والمعاصي، ونقصان الكيل، والوزن‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إذا أتيت أرضاً يوفون المكيال، والميزان، فأطل المقام بها، وإذا أتيت أرضاً ينقصون المكيال والميزان، فأقل المقام بها‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ أشهد أن كل كيال ووزان في النار‏.‏ قيل له‏:‏ فمن وفى الكيل والوزن‏؟‏ قال‏:‏ ليس رجل في المدينة يكيل كما يكتال، ولا يزن كما يتزن‏.‏ والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما أبقى الله لكم من الحلال، خير لكم من الحرام، ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مصدقين‏.‏ فصدقوني فيما أقول لكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ طاعة الله خير لكم‏.‏ ويقال‏:‏ ثواب الله خير لكم في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ يعني‏:‏ رقيباً ووكيلاً، وإنما عليَّ البلاغ‏.‏

‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا * شُعَيْبٌ ***** أصلواتك تَأْمُرُكَ‏}‏ يعني‏:‏ قال له قومه‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص، ‏{‏***أصلاتُكَ‏}‏ بلفظ الواحد يعني‏:‏ أقراءتك‏.‏ ويقال‏:‏ أدعاؤك‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏ياشعيب أصلواتك‏}‏ بلفظ الجماعة، يعني‏:‏ أكثرة صلواتك تأمرك ‏{‏أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ *** ءابَاؤُنَا‏}‏ وكان شعيب كثير الصلاة، ‏{‏قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا‏}‏ من نقصان الكيل والوزن‏؟‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ يعني‏:‏ السفيه الضال، استهزاء منهم به‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى‏}‏ يعني‏:‏ على دين، وطاعة، وبيان، وأتاني رحمة من ربي، ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ بعثني بالرسالة فهداني لدينه، ووسع عليَّ من رزقه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ جواب الشرط ههنا متروك‏.‏ المعنى‏:‏ إن كنت على بينة من ربي، أتبع الضلال‏:‏ فترك الجواب لعلم المخاطبين بالمعنى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ لا أنهاكم عن شيء، وأعمل ذلك العمل، من نقصان الكيل والوزن‏.‏

ومعناه‏:‏ أختار لكم ما أختار لنفسي، نصيحة لكم وشفقة عليكم، ‏{‏إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح‏}‏ يقول‏:‏ ما أريد إلا العدل ‏{‏مَا استطعت‏}‏ يعني‏:‏ ما قدرت يعني لا أترك جهدي في بيان ما فيه مصلحة لكم‏.‏

ثم قال ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله‏}‏ يعني‏:‏ وما تركي هذه الأشياء ودعوتي إلا بالله، يعني‏:‏ إلا بتوفيق الله وبأمره، ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ يعني‏:‏ وثقت به ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ يعني‏:‏ أقبل وأدعو إليه بالطاعة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى‏}‏ يعني‏:‏ لا يحملنكم بغضي وعداوتي، أن لا تتوبوا إلى ربكم، ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ‏}‏ يعني‏:‏ يقع بكم العذاب، ‏{‏مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ‏}‏ يعني‏:‏ مثل عذاب قوم نوح بالغرق، ‏{‏أَوْ قَوْمَ هُودٍ‏}‏ بالريح، ‏{‏أَوْ قَوْمَ صالح‏}‏ الصيحة، فإن طال عهدكم بهم، فاعتبروا بمن أقرب منكم، وهم قوم لوط، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ كان هلاكهم قريباً منكم، ولا يخفى عليكم أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 93‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ وتوبوا إلى الله، ‏{‏إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ‏}‏ بعباده، ‏{‏وَدُودٌ‏}‏ يعني‏:‏ متودد إلى أوليائه بالمغفرة، ويقال‏:‏ محب لأهل طاعته‏.‏ ويقال‏:‏ الودود بمعنى الواد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا * شُعَيْبٌ ***** مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ‏}‏ يعني‏:‏ لا نعقل ما تدعونا إليه، من التوحيد، ومن وفاء الكيل والوزن‏.‏ يعنون‏:‏ إنك تدعونا إلى شيء، خلاف ما كنا عليه وآباؤنا، ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ يعني‏:‏ ومع ذلك أنت ضعيف فينا‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ذليلاً لا قوة لك، ولا حيلة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ ضرير البصر‏.‏ ويقال‏:‏ إنه ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى، ويقال‏:‏ وحيداً لم يوافقك من عظمائنا أحد‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ يعني‏:‏ لولا عشيرتك لقتلناك، لأنهم كانوا يقتلون رجماً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الرجم‏:‏ الرمي‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ ثم قد يستعار ويوضع موضع الشتم إذ الشتم رَمْيٌ، كقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏ يعني‏:‏ لأشتمنك‏.‏ ويوضع موضع الظن، كقوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ أي ظناً‏.‏

والرجم أيضاً‏:‏ الطرد واللعن، وقيل للشيطان رجيم‏:‏ لأنه طريد يرجم بالكواكب‏.‏ وقد يوضع الرجم موضع القتل، لأنهم كانوا يقتلون بالرجم‏.‏ ولأن ابن آدم قتل أخاه بالحجارة‏.‏ فلما كان أول القتل رجماً، سمي القتل رجماً، وإن لم يكن بالحجارة‏.‏

ثم قالوا ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ يعني‏:‏ بكريم، ويقال‏:‏ بعظيم، يعني‏:‏ لا خطر لك عندنا لولا حرمة عشيرتك‏.‏ ويقال‏:‏ ما قتلك علينا بشديد‏.‏ ثمّ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم شعيب عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ حرمة قرابتي أعظم عندكم من حرمة الله تعالى‏؟‏ ويقال خوفكم من عقوبة قرابتي أكبر من خوف الله‏.‏ ويقال‏:‏ عشيرتي أعظم عليكم من كتاب الله تعالى، ومن أمره‏؟‏ ‏{‏واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ يقول‏:‏ تركتم أمر الله تعالى وراءكم، خلف ظهوركم، وتعظمون أمر رهطي، وتتركون تعظيم الله تعالى، ولا تخافونه‏؟‏ وهذا قول الفراء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه‏:‏ اتخذتم أمر الله وراءكم ظهرياً، أي نبذتموه وراء ظهوركم، والعرب تقول‏:‏ لكل من لا يعبأ بأمر قد جعل فلان هذا الأمر بظهره‏.‏ وقال الأخفش، وراءكم ظهرياً، يقول‏:‏ لم تلتفوا إليه‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ يعني‏:‏ عالماً بأعمالكم، من نقصان الكيل والوزن، وغيره‏.‏ والإحاطة‏:‏ هي إدراك الشيء بكماله‏.‏ ثم قال تعالى ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اعملوا في هلاكي، وفي أمري، ‏{‏إِنّى عامل‏}‏ في أمركم، والمكانة، والمكان بمعنى واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏، وهذا وعيد لهم، ‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ يهلكه ويهينه، ‏{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ يعني‏:‏ ستعلمون من هو كاذب‏.‏ ويقال معناه‏:‏ من يأتيه عذاب يخزيه، ويخزي أمره‏.‏ من هو كاذب على الله بأن معه شريكاً، ‏{‏وارتقبوا‏}‏ يعني‏:‏ انتظروا بي العذاب ‏{‏إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏ يعني‏:‏ منتظر بكم العذاب في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 101‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ يعني‏:‏ عذابنا، وذلك‏:‏ أنه أصابهم حر شديد، فخرجوا إلى غيضة لهم، فدخلوا فيها، فظهرت لهم سحابة كهيئة الظلة، فأحرقت الأشجار‏.‏ وصاح جبريل صيحة، فماتوا كلهم، كما قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 189‏]‏ وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ يعني‏:‏ عذابنا ‏{‏نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ‏}‏ يعني‏:‏ صيحة جبريل ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ يعني‏:‏ صاروا في مواضعهم ميتين لا يتحركون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ كأن لم يعمروا فيها، ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ‏}‏ يعني‏:‏ بعداً من رحمة الله تعالى، ‏{‏كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ من رحمته‏.‏ وروى أبو صالح، عن ابن عباس، قال‏:‏ لم تعذب أمتان بعذاب واحد، إلا قوم شعيب وصالح، صاح بهم جبريل فأهلكهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ التسع، ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ حجة بينة، ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ‏}‏ يعني‏:‏ قومه، ‏{‏فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ أطاعوا قول فرعون حين قال‏:‏ ‏{‏ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 29‏]‏ فأطاعوه في ذلك، وحين قال لهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّى صَرْحاً لعلى أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، فأطاعوه وتركوا موسى‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ يقول‏:‏ ما قول فرعون بصواب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة‏}‏ يقول‏:‏ يتقدم أمام قومه يوم القيامة، وهم خلفه، كما كانوا يتبعونه في الدنيا، ويقودهم إلي النار، ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ يقول‏:‏ أدخلهم النار، ‏{‏وَبِئْسَ الورد المورود‏}‏ يقول‏:‏ بئس المدخل المدخول، يعني‏:‏ بئس المصير الذي صاروا إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه لَعْنَةً‏}‏ يعني‏:‏ جعل عليهم اللعنة في الدنيا، وهو الغرق، ‏{‏وَيَوْمَ القيامة‏}‏ لعنة أُخرى، وهي النار، ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ يعني‏:‏ اللعنة على أثر اللعنة، ومعناه‏:‏ بئس الغرق وزفرة النار، ترادفت عليهم اللعنتان، لعنة الدنيا الغرق، ولعنة الآخرة النار‏.‏

وقال القتبي‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ يعني‏:‏ بئس العطاء المعطى، يقال‏:‏ رفدته أي‏:‏ أعطيته، وقال الزجاج‏:‏ كل شيء جعلته عوناً لشيء، وأسندت به شيئاً فقد رفدته وقال قتادة‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ‏}‏ يعني يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ قال‏:‏ لعنة في الدنيا، وزيدوا بها اللعنة في الآخرة‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى‏}‏ يعني‏:‏ هذا الذي وصفت لك وقصصت عليك من أخبار الأمم، والقرون الماضية، ‏{‏نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ ينزل جبريل، ليقرأ عليك ليكون فيها دلالة نبوتك، ‏{‏مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ من تلك القرى قائم، ومنها ما هو حصيد والقائم، يعني‏:‏ الظاهر ينظر إليه الناظر، والحصيد‏:‏ الذي قد أبيد وحصد، يعني‏:‏ خرب وهلك أصحابه‏.‏

ويقال‏:‏ القائم على بنيانه، والحصيد ما خرب‏.‏ وقال قتادة‏:‏ منها قائم، يعني‏:‏ خاوية على عروشها وحصيد، يعني‏:‏ مستأصلة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ منها قائم، يعني‏:‏ مدينة عاد هلكوا، وبقيت مساكنهم، وحصيد، يعني‏:‏ مدائن قوم لوط، حصدت أي قلعت من الأرض السفلى‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ يعني‏:‏ لم نعذبهم بغير ذنب، ‏{‏ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أضروا بأنفسهم حيث أكلوا رزق الله، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله، ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ‏}‏ يعني‏:‏ ما نفعتهم عبادة آلهتهم، ‏{‏التى يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَئ‏}‏ إنما سماهم آلهة على وجه المجاز، يعني‏:‏ آلهتهم بزعمهم، ولم يكونوا آلهة في الحقيقة‏.‏ ومعناه‏:‏ لم تقدر أصنامهم أن تمنعهم من عذاب الله من شيء، ‏{‏لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ حين جاء عذاب ربك، وقال القتبي‏:‏ إذا رأيت لِلَمَّا جواباً فهو بمعنى حين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ يعني‏:‏ حين أغضبونا، وكقوله‏:‏ ‏{‏لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ حين جاء أمر ربك، يعني‏:‏ عذاب ربك، ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ يعني‏:‏ غير تخسير، كقوله‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏ أي خسرت‏.‏